سورة الأنعام - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون} وقال النقاش: نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف فإنه كان يكذب في العلانية ويصدق في السرّ ويقول: نخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس، وقال غيره: روي أن الأخنس بن شريف قال لأبي جهل. يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرنا فقال له: والله أن محمداً لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت. {قد} حرف توقع إذا دخلت على مستقبل الزمان كان التوقع من المتكلم كقولك: قد ينزل المطر في شهر كذا وإذا كان ماضياً أو فعل حال بمعنى المضي فالتوقع كان عند السامع، وأما المتكلم فهو موجب ما أخبر به وعبر هنا بالمضارع إذ المراد الاتصاف بالعلم واستمراره ولم يلحظ فيه الزمان؛ كقولهم: هو يعطي ويمنع. وقال الزمخشري والتبريزي: قد نعلم بمعنى ربما الذي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله: ولكنه قد يهلك المال نائله؛ انتهى. وما ذكره من أن قد تأتي للتكثير في الفعل والزيادة قول غير مشهور للنحاة وإن كان قد قال بعضهم مستدلاً بقول الشاعر:
قد أترك القرن مصفرًّا أنامله *** كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفرصاد
وبقوله:
أخي ثقةٍ لا يتلف الخمر ماله *** ولكنه قد يهلك المال نائله
والذي نقوله: إن التكثير لم يفهم من {قَد} وإنما يفهم من سياق الكلام لأنه لا يحصل الفخر والمدح بقتل قرن واحد ولا بالكرم مرّة واحدة، وإنما يحصلان بكثرة وقوع ذلك وعلى تقدير أن قد تكون للتكثير في الفعل وزيادته لا يتصور ذلك، في قوله: {قد نعلم} لأن علمه تعالى لا يمكن فيه الزيادة والتكثير، وقوله: بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته، والمشهور أن ربّ للتقليل لا للتكثير وما الداخلة عليها هي مهيئة لأن يليها الفعل وما المهيئة لا تزيل الكلمة عن مدلولها، ألا ترى أنها في كأنما يقوم زيد ولعلما يخرج بكر لم تزل كأنّ عن التشبيه ولا لعل عن الترجّي. قال بعض أصحابنا: فذكر بما في التقليل والصرف إلى معنى المضيّ يعني إذا دخلت على المضارع قال: هذا ظاهر قول سيبويه، فإن خلت من معنى التقليل خلت غالباً من الصرف إلى معنى المضيّ وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو قوله {قد نعلم إنه ليحزنك} وقوله {لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم} وقول الشاعر:
وقد تدرك الإنسان رحمة ربِّه *** ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
وقد تخلو من التقليل وهي صارفة لمعنى المضي نحو قول: {قد نرى تقلب وجهك} انتهى. وقال مكي: {قد} هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه و{نعلم} بمعنى علمنا. وقال ابن أبي الفضل في ري الظمآن: كلمة {قَد} تأتي للتوقع وتأتي للتقريب من الحال وتأتي للتقليل؛ انتهى، نحو قولهم: إن الكذوب قد يصدق وإن الجبان قد يشجع والضمير في {إنه} ضمير الشأن، والجملة بعده مفسرة له في موضع خبر إن ولا يقع هنا اسم الفاعل على تقدير رفعه ما بعده على الفاعلية موقع المضارع لما يلزم من وقوع خبر ضمير الشأن مفرداً وذلك لا يجوز عند البصريين، وتقدم الكلام على قراءة من قرأ يحزنك رباعياً وثلاثياً في آخر سورة آل عمران وتوجيه ذلك فاغني عن إعادته هنا و{الذي يقولون} معناه مما ينافي ما أنت عليه. قال الحسن: كانوا يقولون إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون. وقيل: كانوا يصرحون بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه. وقيل: كانوا ينسبونه إلى الكذب والافتعال. وقيل: كان بعض كفار قريش يقول له: رئي من الجن يخبره بما يخبر به.
وقرأ علي ونافع والكسائي بتخفيف {يكذبونك}. وقرأ باقي السبعة وابن عباس بالتشديد. فقيل: هما بمعنى واحد نحو كثر وأكثر. وقيل: بينهما فرق حكى الكسائي أن العرب تقول: كذبت الرجل إذ نسبت إليه الكذب وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه وتقول العرب أيضاً: أكذبت الرجل إذا وجدته كذاباً كما تقول: أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً فعلى القول بالفرق يكون معنى التخفيف لا يجدونك كاذباً أو لا ينسبون الكذب إليك، وعلى معنى التشديد يكون إما خبراً محضاً عن عدم تكذيبهم إياه ويكون من نسبة ذلك إلى كلهم على سبيل المجاز والمراد به بعضهم لأنه معلوم قطعاً أن بعضهم كان يكذبه، ويكذب ما جاء به وإما أن يكون نفي التكذيب لانتفاء ما يترتب عليه من المضار فكأنه قيل {لا يكذبونك} تكذيباً يضرك لأنك لست بكاذب فتكذيبهم كلا تكذيب. وقال في المنتخب: لا يراد بقوله: {لا يكذبونك} خصوصية تكذيبه هو، بل المعنى أنهم ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقاً فالمعنى {لا يكذبونك} على التعيين بل يكذبون جميع الأنبياء والرسل. وقال قتادة والسدي: {لا يكذبونك} بحجة وإنما هو تكذيب عناد وبهت. وقال ناجية بن كعب: لا يقولون إنك كاذب لعلمهم بصدقك ولكن يكذبون ما جئت به. وقال ابن السائب ومقاتل: {لا يكذبونك} في السر، ولكن يكذبونك في العلانية عداوة. وقال: لا يقدرون على أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم كذبت ذكره الزجاج ورجح قراءة على بالتخفيف بعضهم، ولا ترجيح بين المتواترين. قال الزمخشري: والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله تعالى لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته فانته عن حزنك لنفسك وإنهم كذبوك وأنت صادق، وليشغلك عن ذلك ما هو أهم وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه ونحوه قول السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني وفي هذه الطريقة قوله تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} وعن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون، فكان أبو جهل يقول: ما نكذبك وإنك عندنا لمصدق وإنما نكذب ما جئتنا به؛ انتهى. وفي الكلام حذف تقديره: فلا تحزن فإنهم لا يكذبونك، وأقيم الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على أنّ علة الجحود هي الظلم وهي مجاوزة الحدّ في الاعتداء، أي ولكنهم بآيات الله يجحدون.
وآياته قال السدّي: محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن السائب: محمد والقرآن. وقال مقاتل: القرآن. وقال ابن عطية: آيات الله علاماته وشواهد نبيه صلى الله عليه وسلم والجحود إنكار الشيء بعد معرفته وهو ضد الإقرار، فإن كانت نزلت في الكافرين مطلقاً فيكون في الجحود تجوز إذ كلهم ليس كفره بعد معرفة ولكنهم لما أنكروا نبوّته وراموا تكذيبه بالدعوى الباطلة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهو الجحد تغليظاً عليهم وتقبيحاً لفعلهم، إذ معجزاته وآياته نيرة يلزم كل مفطور أن يقربها ويعلمها وإن كانت نزلت في المعاندين ترتب الجحود حقيقة وكفر العناد يدل عليه ظواهر القرآن وهو واقع أيضاً كقصة أبي جهل مع الأخنس بن شريق وقصة أمية بن أبي الصلت، وقوله: ما كنت لأومن بنبي لم يكن من ثقيف، ومنع بعض المتكلمين جواز كفر العناد، لأن المعرفة تقتضي الإيمان والجحد يقتضي الكفر، فامتنع اجتماعهما، وتأولوا ظواهر القرآن فقالوا: في قوله: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} أنها في أحكام التوراة التي بدلوها كآية الرجم ونحوها. قال ابن عطية: وكفر العناد من العارف بالله وبالنبوة بعيد؛ انتهى. والتأويلات في نفي التكذيب إنما هو عن اعتقاداتهم إما بالنسبة إلى أقوالهم فأقوالهم مكذبة إما له وإما لما جاء به.
{ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا} قال الضحاك وابن جريج: عزى الله تعالى نبيه بهذه الآية فعلى قولهما يكون هو صلى الله عليه وسلم قد كذب وهو مناف لقوله: فإنهم لا يكذبونك وزوال المنافاة بما تقدم من التأويلات كقول الزمخشري وغيره أن قوله: {لا يكذبونك} ليس هو من نفي تكذيبه حقيقة. قال: وإنما هو من باب قولك لغلامك: ما أهانوك ولكن أهانوني وجاء قوله: {ولقد كذبت رسل من قبلك} تسلية له صلى الله عليه وسلم ولما سلاه تعالى بأنهم بتكذيبك إنما كذبوا الله تعالى سلاه ثانياً بأن عادة أتباع الرسل قبلك تكذيب رسلهم، وأن الرسل صبروا فتأسَّ بهم في الصبر، وما في قوله: {ما كذبوا} مصدرية أي فصبروا على تكذيبهم والمعنى فتأسّ بهم في الصبر على التكذيب والأذى حتى يأتيك النصر والظفر كما أتاهم.
قال ابن عباس: {فصبروا على ما كذبوا} رجاء ثوابي وأوذوا حتى نشروا بالمناشير وحرقوا بالنار، حتى أتاهم نصرنا بتعذيب من يكذبهم؛ انتهى. ويحتمل {وأوذوا} أن يكون معطوفاً على قوله: {كذبت} ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله {فصبروا} ويبعد أن يكون معطوفاً على {كذبوا} ويكون التقدير فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم، وروي عن ابن عامر أنه قرأ وأذوا بغير واو بعد الهمزة جعله ثلاثياً لا رباعياً من أذيت فلاناً لا من آذيت، وفي قوله: {نصرنا} التفات إذ قبله بآيات الله وبلاغة هذا الالتفات أنه أضاف النصر إلى الضمير المشعر بالعظمة المتنزل فيه الواحد منزلة الجمع والنصر مصدر أضيف إلى الفاعل والمفعول محذوف أي نصرنا إياهم على مكذبيهم ومؤذيهم، والظاهر أن الغاية هنا الصبر والإيذاء لظاهر عطف {وأوذوا} على {فصبروا} وإن كان معطوفاً على {كذبوا} فتكون الغاية للصبر أو معطوفاً على {كذبت} فغاية له وللتكذيب أو للإيذاء فقط.
{ولا مبدل لكلمات الله} قال ابن عباس: أي لمواعيد الله ولم يذكر الزمخشري غيره قال: لمواعيده من قوله {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون} وقال الزجاج لما أخبر به وما أمر به والإخبار والأوامر من كلمات الله، واقتصر ابن عطية على بعض ما قال الزجاج فقال: ولا رادَّ لأوامره. وقيل: المعنى لحكوماته وأقضيته، كقوله {ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} أي وجب ما قضاه عليهم. وقيل: المعنى لا يقدر أحد على تبديل كلمات الله وإن زخرف واجتهد، لأنه تعالى صانه برصين اللفظ وقويم المعنى أن يخلط بكلام أهل الزيغ. وقيل: اللفظ خبر والمعنى على النهي أي لا يبدل أحد كلمات الله، فهو كقوله {لا ريب فيه} أي لا يرتابون فيه على أحد الأقوال.
{ولقد جاءك من نبأ المرسلين} هذا فيه تأكيد تثبيت لما تقدم الإخبار به من تكذيب أتباع الرسل للرّسل وإيذائهم وصبرهم إلى أن جاء النصر لهم عليهم والفاعل بجاء. قال الفارسي: هو من نبأ ومن زائدة أي ولقد جاءك نبأ المرسلين، ويضعف هذا لزيادة من في الواجب. وقيل: معرفة وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش، ولأن المعنى ليس على العموم بل إنما جاء بعض نبأهم لا أنباؤهم، لقوله {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} وقال الرماني: فاعل جاءك مضمر تقديره: ولقد جاءك نبأ. وقال ابن عطية: الصواب عندي أن يقدر جلاء أو بيان، وتمام هذا القول والذي قبله أن التقدير: ولقد جاء هو من نبإ المرسلين أي نبأ أو بيان، فيكون الفاعل مضمراً يفسر بنبإ أو بيان لا محذوفاً لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر لي أن الفاعل مضمر تقديره هو، ويدلّ على ما دلّ عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من تكذيب أتباع الرسل للرسل والصبر والإيذاء إلى أن نصروا، وأن هذا الإخبار هو بعض نبإ المرسلين الذين يتأسى بهم و{من نبإ} في موضع الحال، وذو الحال ذلك المضمر والعامل فيها وفيه {جاءك} فلا يكون المعنى على هذا ولقد جاءك نبأ أو بيان إلا أن يراد بالنبإ والبيان هذا النبأ السابق أو البيان السابق، وأما الزمخشري فلم يتعرض لفاعل جاء بل قال: {لقد جاءك من نبأ المرسلين} بعض أنبائهم وقصصهم، وهو تفسير معنى لا تفسير إعراب لأن من لا تكون فاعلة.
{وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية} {كبر} أي عظم وشق إعراضهم عن الإيمان والتصديق بما جئت به، وهو صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه إعراضهم لكن جاء الشرط معتبراً فيه التبيين والظهور، وهو مستقبل، وعطف عليه الشرط الذي لم يقع، وهو قوله: {فإن استطعت} وليس مقصوداً وحده بالجواب فمجموع الشرطين بتأويل الأول لم يقع بل المجموع مستقبل، وإن كان ظاهر أحدهما بانفراده واقع ونظيره {إن كان قميصه قد من قبل} {وإن كان قميصه قد من دبر} ومعلوم أنه قد وقع أحدهما، لكن المعنى أن يتبين ويظهر كونه قدّ من كذا وكذا يتأول ما يجيء من دخول أن الشرطية على صيغة كان على مذهب جمهور النحاة خلافاً لأبي العباس المبرد فإنه زعم إن أن إذا دخلت على كان بقيت على مضيها بلا تأويل والنفق السرب في داخل الأرض الذي يتوارى فيه. وقرأ نبيج الغنوي أن تبتغي نافقاً في الأرض والنافقاء ممدود وهو أحد مخارج جحر اليربوع وذلك أن اليربوع يخرج من باطن الأرض إلى وجهها ويرق ما واجه الأرض ويجعل للحجر بابين أحدهما النافقاء والآخر القاصعاء، فإذا رابه أمر من أحدهما دفع ذلك الوجه الذي أرقه من أحدهما وخرج منه. وقيل: لجحره ثلاثة أبواب، قال السدي: السلم المصعد. وقال قتادة: الدرج. وقال أبو عبيدة: السبب والمرقاة، تقول العرب: اتخذني سلماً لحاجتك أي سبباً. ومنه قول كعب بن زهير:
ولا لكما منجى من الأرض فابغيا *** به نفقاً أو في السموات سلّما
وقال الزجاج: السلم من السلامة وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك، والسلم الذي يصعد عليه ويرتقى وهو مذكر. وحكى الفراء فيه التأنيث، قال بعضهم: تأنيثه على معنى المرقاة لا بالوضع كما أنث، الصوت بمعنى الصيحة والاستغاثة في قوله: سائل بني أسد ما هذه الصوت. ومعنى الآية قال الزمخشري يعني أنك لا تستطيع ذلك، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتي بها رجاء إيمانهم.
وقيل: كانوا يقترحون الآيات فكان يود أن يجابوا إليها لتمادي حرصه على إيمانهم، فقيل له: إن استطعت كذا فافعل دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا لعلهم يؤمنون؛ انتهى. والظاهر من قوله {فتأتيهم بآية} أن الآية هي غير ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء، وأن المعنى: أن تبتغي نفقاً في الأرض فتدخل فيه أو سلّماً في السماء فتصعد عليه إليها {فتأتيهم بآية} غير الدخول في السرب والصعود إلى السماء مما يرجى إيمانهم بسببها أو مما اقترحوه رجاء إيمانهم، وتلك الآية من إحدى الجهتين. وقال ابن عطية: وقوله تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم} إلزام الحجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليهم حتى يتبين أن لا وجه إلا الصبر والمضيّ لأمر الله تعالى، والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاء سلم في السماء، فدونك وشأنك به أي إنك لا تقدر على شيء من هذا، ولا بد من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله للناظرين المتأملين إذ هو لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى، وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدى بالنظر فيه قوم بحق ملكه {فلا تكونن من الجاهلين} أي في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه؛ انتهى.
وأجاز الزمخشري وابن عطية أن تكون الآية التي يأتي بها هي نفس الفعل. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيان بالآية كأنه قيل: لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الترقي في السماء لعلّ ذلك يكون آية لك يؤمنون بها. وقال ابن عطية: {فتأتيهم بآية} بعلامة ويريد: إما في فعلك ذلك أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض وارتقائك في السماء وإما في أن تأتيهم بالآية من إحدى الجهتين؛ انتهى. وما جوزاه من ذلك لا يظهر من دلالة اللفظ إذ لو كان ذلك كما جوزاه لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية وأيضاً فأي آية في دخول سرب في الأرض، وأما الرقي في السماء فيكون آية. وقيل قوله {أن تبتغي نفقاً في الأرض} إشارة إلى قولهم {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} وقوله: {أو سلّماً في السماء} إشارة إلى قولهم: {أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك} وكان فيها ضمير الشأن، والجملة المصدرة بكبر عليك إعراضهم في موضع خبر كان وفي ذلك دليل على أن خبر كان وأخواتها يكون ماضياً ولا يحتاج فيه إلى تقدير قد، لكثرة ما ورد من ذلك في القرآن وكلام العرب خلافاً لمن زعم أنه لا بدّ فيه من قد ظاهرة أو مقدرة وخلافاً لمن حصر ذلك بكان دون أخواتها، وجوزوا أن يكون اسمها إعراضهم فلا يكون مرفوعاً بكبر كما في القول الأول وكبر فيه ضمير يعود على الإعراض وهو في موضع الخبر وهي مسألة خلاف، وجواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره فافعل كما تقول: إن شئت تقوم بنا إلى فلان نزوره، أي فافعل ولذلك جاء فعل الشرط بصيغة الماضي أو المضارع المنفيّ بلم لأنه ماض، ولا يكون بصيغة المضارع إلا في الشعر.
{ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} أي إما يخلق ذلك في قلوبهم أولاً فلا يضل أحد وإما يخلقه فيهم بعد ضلالهم، ودلّ هذا التعليق على أنه تعالى ما شاء منهم جميعهم الهدى، بل أراد إبقاء الكافر على كفره.
قال أبو عبد الله الرازي: ويقرر هذا الظاهر أن قدرة الكافر على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان، فالقدرة على الكفر مستلزمة له غير صالحة للإيمان فخالق تلك القدرة يكون قد أراد الكفر لا محالة، وإن كانت صالحة له كما صلحت للكفر استوت نسبة القدرة إليهما فامتنع الترجيح إلا الداعية مرجحة، وليست من العبد وإلا وقع التسلسل، فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله وثبت أن مجموع الداعية الصالحة توجب الفعل وثبت أن خالق مجموع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر غير مريد لذلك الإيمان، فهذا البرهان اليقيني قوي ظاهر هذه الآية، ولا بيان أقوى من تطابق البرهان مع ظاهر القرآن.
وقال ابن عطية: وهذه الآية تردّ على القدرية المفوّضة الذين يقولون: إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر وأن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق فيه تعالى الله عن قولهم.
وقال الزمخشري: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} بآية ملجئة، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة؛ انتهى، وهذا قول المعتزلة.
وقال القاضي: والإلجاء أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمان لمنعهم منه، وحينئذ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان، وهو تعالى إنما ترك فعل هذا الإلجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم، فيكون ما وقع منهم كأن لم يقع، وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا بما يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة به إلى الثواب، وذلك لا يكون إلا اختياراً، وأجاب أبو عبد الله الرازي بأنه تعالى أراد منهم الإقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر بالسوية، أو حال حصول هذا الرجحان، والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال، وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع، والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع، وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيارات، فسقط قولهم بالكلية.
{فلا تكونن من الجاهلين} تقدم قول ابن عطية في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله تعالى، وأمضاه، وعلم المصلحة فيه.
وقال أيضاً: و{من الجاهلين} يحتمل في أن لا تعلم أن الله {لو شاء لجمعهم على الهدى} ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره الله وأراده، وتذهب بك نفسك إلى ما لم يقدر الله، انتهى. وضعف الاحتمال الأول بأنّه صلى الله عليه وسلم مع كمال ذاته وتوفر معلوماته وعظيم اطّلاعه على ما يليق بقدرة الحقّ جلّ جلاله، واستيلائه على جميع مقدوراته، لا ينبغي أن يوصف بأنه جاهل بأنه تعالى لو شاء لجمعهم على الهدى، لأن هذا من قبيل الدين والعقائد، فلا يجوز أن يكون جاهلاً بها، وكأن الزمخشري قد فسر قوله: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} بأن تأتيهم آية ملجئة، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة فقال في قوله: {فلا تكونن من الجاهلين} من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه. وأشار بذلك إلى الإتيان بالآية الملجئة إلى الإيمان وتقدم الكلام في الإلجاء.
وقيل: لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم ويكفر بعضهم، وضعف بأن هذا ليس مما يجهله صلى الله عليه وسلم.
وقيل لا تكوننّ ممن لا صبر له لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين، وضعف بأنه تعالى قد أمره بالصبر في آيات كثيرة ومع أمر الله له بالصبر وبيان أنه خير يبعد أن يوصف بعد صبره بقلة الصبر.
وقيل: لا يشتد حزنك لأجل كفرهم فتقارب حال الجاهل بأحكام الله وقدره، وقد صرح بهذا في قوله: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} وقال قوم: جاز هذا الخطاب لأنه لقربه من الله ومكانته عنده كان ذلك حملاً عليه كما يحمل العاقل على قريبه فوق ما يحمله على الأجانب، خشية عليه من تخصيص الإذلال.
وقال مكي والمهدوي: الخطاب له والمراد به أمته، وتمم هذا القول بأنه كان يحزنه إصرار بعضهم على الكفر وحرمانهم ثمرات الإيمان.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ؛ انتهى.
وقيل: الرسول معصوم من الجهل والشك بلا خلاف، ولكن العصمة لا تمنع الامتحان بالأمر والنهي، أو لأن ضيق صدره وكثرة حزنه من الجبلات البشرية، وهي لا ترفعها العصمة بدليل: «اللهم إني بشر وإني أغضب كما يغضب البشر» الحديث. وقوله: «إنما أنا بشر فإذا نسيت فذكروني» انتهى.
والذي أختاره أن هذا الخطاب ليس للرسول، وذلك أنه تعالى قال: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} فهذا إخبار وعقد كلّي أنه لا يقع في الوجود إلا ما شاء وقوعه، ولا يختص هذا الإخبار بهذا الخطاب بالرسول بل الرسول عالم بمضمون هذا الإخبار، فإنما ذلك للسامع فالخطاب والنهي في {فلا تكونن} للسامع دون الرسول فكأنه قيل: ولو شاء الله أيها السامع الذي لا يعلم أن ما وقع في الوجود بمشيئة الله جمعهم على الهدى لجمعهم عليه، فلا تكونن أيها السامع من الجاهلين بأن ما شاء الله إيقاعه وقع، وأن الكائنات معذوقة بإرادته.


التضرّع: تَفَعُّل من الضراعة وهي الذلة، يقال: ضرع يضرع ضراعة، قال الشاعر:
ليبك يزيدَ ضارع لخصومة *** ومختبطٌ مما تطيح الطوائح
أي ذليل ضعيف. صدف عن الشيء أعرض عنه صدفاً وصدوفاً، وصادفته لقيته عن إعراض عن جهته قال ابن الرقاع:
إذا ذكرن حديثاً قلن أحسنه *** وهنَّ عن كل سوء يتقى صدف
صدف جمع صدوف، كصبور وصبر. وقيل: صدف مال مأخوذ من الصدف في البعير، وهو أن يميل خفه من اليد إلى الرجل من الجانب الوحشيّ، والصدفة واحدة الصدف وهي المحارة التي يكون فيها الدر. قال الشاعر:
وزادها عجباً أن رحت في سمك *** وما درت دورانَ الدرِّ في الصَّدف
الخزانة ما يحفظ فيه الشيء مخافة أن ينال، ومنه «فإنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته» وهي بفتح الخاء. وقال الشاعر:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه *** فليس على شيء سواه بخزّان
الطرد الإبعاد بإهانة والطريد المطرود، وبنو مطرود وبنو طراد فخذان من إياد.
{إنما يستجيب الذين يسمعون} إنما يستجيب للإيمان الذين يسمعون سماع قبول وإصغاء كما قال: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} ويستجيب بمعنى يجيب. وفرّق الرماني بين أجاب واستجاب بأن استجاب فيه قبول لما دعي إليه. قال: {فاستجاب لهم ربهم} {فاستجبنا له ونجيناه من الغم} وليس كذلك أجاب لأنه قد يجيب بالمخالفة.
قال الزمخشري يعني أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، وإنما يستجيب من يسمع كقوله {إنك لا تسمع الموتى} وقال ابن عطية هذا من النمط المتقدم في التسلية، أي لا تحفل بمن أعرض فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يفهمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول فعبر عن ذلك كله بيسمعون. إذ هو طريق العلم بالنبوة والآيات المعجزة. وهذه لفظة تستعملها الصوفية إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغاً شافياً قالوا استمع {والموتى يبعثهم الله} الظاهر أن هذه جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، والظاهر أن الموت هنا والبعث حقيقة وذلك إخبار من الله تعالى أن الموتى على العموم من مستجيب وغير مستجيب، يبعثهم الله فيجازيهم على أعمالهم وجاء لفظ الموتى عاماً لإشعار ما قبله بالعموم في قوله {إنما يستجيب الذين يسمعون} إذ الحصر يشعر بالقسم الآخر وهو أن من لا يسمع سماع قبول، لا يستجيب للإيمان وهم الكفار. وصار في الإخبار عن الجميع بالبعث والرجوع إلى جزاء الله تعالى، تهديد ووعيد شديد لمن لم يستحب وتظافرت أقوال المفسرين أن قوله والموتى يراد به الكفار. سموا بالموتى كما سموا بالصمِّ والبكم والعمي وتشبيه الكافر بالميت من حيث إنّ الميت جسده خالٍ عن الروح، فيظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات.
وأصلح أحواله دفنه تحت التراب. والكافر روحه خالية عن العقل فيظهر منه جهله بالله تعالى ومخالفاته لأمره وعدم قبوله لمعجزات الرسل، وإذا كانت روحه خالية من العقل كان مجنوناً فأحسن أحواله أن يقيَّد ويحبس. فالعقل بالنسبة إلى الرّوح كالروح بالنسبة إلى الجسد. وإذا كان المراد بالموتى هنا الكفار فقيل البعث يراد به حقيقته من الحشر يوم القيامة والرجوع هو رجوعهم إلى سطوته وعقابه، قاله مجاهد وقتادة.
وعلى هذا تكون هذه الجملة متضمنة الوعيد للكفار. وقيل الموت والبعث حقيقة والجملة مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة {ثم إليه يرجعون} للجزاء، فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان وأنت لا تقدر على ذلك قاله الزمخشري. وقيل الموت والبعث مجازان استعير الموت للكفر والبعث للإيمان.
فقيل الجملة من قوله {والموتى يبعثهم الله} مبتدأ وخبر أي والموتى بالكفر يحييهم الله بالإيمان.
وقيل ليس جملة بل {الموتى} معطوف على {الذين يسمعون}، و{يبعثهم} الله جملة حالية. والمعنى إنما يستجيب الذين يسمعون سماع قبول، فيؤمنون بأول وهلة والكفار حتى يرشدهم الله تعالى ويوفقهم للإيمان، فلا تتأسف أنت ولا تستعجل ما لم يقدر.
وقرئ ثم إليه يرجعون بفتح الياء من رجع اللازم.
{وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه} قال ابن عباس نزلت في رؤساء قريش سألوا الرسول آية تعنتاً منهم، وإلا فقد جاءهم بآيات كثيرة فيها مقنع انتهى.
والضمير في {وقالوا} عائد على الكفار، ولولا تحضيض بمعنى هلا.
{قل إن الله قادر على أن ينزل آية} أي مهما سألتموه من إنزال آية الله قادر على ذلك. كما أنزل الآيات السابقة فلا فرق في تعلق القدرة بالآيات المقترحة على سبيل التعنت والآيات التي لم تقترح وقد اقترحتم آيات كانشقاق القمر فلم تجد عليكم ولا أثرت فيكم، وقلتم هذا سحر مستمر ولم تعتدوا بما أنزل مع كثرته حتى كأنه لم ينزل شيء من الآيات، لأن دأبكم العناد في آيات الله.
وقال الزمخشري على أن ينزل آية يضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل على بني إسرائيل أو آية أن يجحدوها جاءهم العذاب.
{ولكن أكثرهم لا يعلمون} أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية وإن صارفاً من الحكمة صرفه عن إنزالها.
وقال ابن عطية {لا يعلمون} أنها لو أنزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب، ويحتمل لا يعلمون أن الله تعالى إنما جعل المصلحة في آيات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون انتهى. والذي يظهر {لا يعلمون} نفى عنهم العلم حيث فرقوا بين تعلق القدرة بالآيات التي نزلت وبين تعلقها بالآيات المقترحة وتعلق القدرة بهما سواء لاجتماع المقترح وغير المقترح في الإمكان، فمن فرق بين المتماثلات ولم يقنع بما ورد منها فهو لا شك جاهل.
{وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} قال ابن الأنباري وموضع الاحتجاج من هذه الآية أن الله ركب في المشركين عقولاً وجعل لهم أفهاماً ألزمهم بها أن يتدبروا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جعل للدّواب والطير أفهاماً يعرف بها بعضها إشارة بعض، وهدى الذَّكر منها لإتيان الأنثى، وفي ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها.
وقال ابن عطية: المعنى في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته.
وقال الزمخشري: فإن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة على عظم قدرته ولطف علمه وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف، وهو لما لها وما عليها مهيمنٌ على أحوالها لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان انتهى.
والذي يظهر أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء قولهم {لولا نزل عليه آية من ربه} ولم يعتبروا ما نزل من الآيات وأجيبوا بأن القدرة صالحة لإنزال آية وهي التي اقترحتموها ونبهوا على جهلهم حيث فرقوا بين آية وآية أخبروا أنهم أنفسهم وجميع الحيوان غيرهم متماثلون في تعلق القدرة الإلهية بالجميع، فلا فرق بين خلق من كُلِّف وما لم يكلَّف في تعلق القدرة بهما وإبرازهما من صرف العدم إلى صرف الوجود، فكأنه قيل القدرة تعلقت بالآيات كلها مقترحها وغير مقترحها كما تعلقت بخلقكم وخلق سائر الحيوان، فالإمكان هو الجامع بين كل ذلك؛ ولذلك قال تعالى: {إلا أمم أمثالكم} يعني في تعلق القدرة بإيجادها كتعلقها بإيجادكم. وكذلك الآيات. وفي ذلك إشارة إلى أن الآيات الواردة على أيدي الأنبياء عليهم السلام قد تكون باختراع أعيان، كالماء الذي نبع من بين الأصابع والطعام الذي تكثر من قليل، كما أن المخلوقات هي أعيان مخترعة لله تعالى، وكأن النسبة بمماثلة الحيوان للإنسان دون ذكر الجماد ودون ذكر ما يعمها من حيث قسوة المماثلة في الشعور بالأشياء والاهتداء إلى كثير من المصالح بخلاف الجماد، وإن كانت القدرة متعلقة بجميع المخلوقات ودابة تقدّم شرحها، وهي هنا في سياق النفي مصحوبة بمن التي تفيد استغراق الجنس، فهي عامّة تشمل كل ما يدبّ فيندرج فيها الطائر، فذِكْرُ الطائر بعد ذكر الدابة تخصيص بعد تعميم وذكْرُ بعضٍ من كلٍّ وصار من باب التجريد كقوله: {وجبريل وميكال} بعد ذكر الملائكة. وإنما جرد الطائر لأن تصرفه في الوجود دون غيره من الحيوان أبلغ في القدرة وأدل على عظمها من تصرف غيره من الحيوان في الأرض، إذ الأرض جسم كثيف يمكن تصرف الأجرام عليها، والهواء جسم لطيف لا يمكن عادة تصرف الأجرام الكثيفة فيها إلا بباهر القدرة الإلهية، ولذلك قال تعالى: {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهنّ إلا الله} وجاء قوله في الأرض إشارة إلى تعميم جميع الأماكن لما كان لفظ {من دابة} وهو المتصرف أتى بالمتصرف فيه عاماً وهو الأرض، ويشمل الأرض البر والبحر، ويطير بجناحيه تأكيد لقوله {ولا طائر} لأنه لا طائر إلا يطير بجناحيه، وليرفع المجاز الذي كان يحتمله قوله {ولا طائر} لو اقتصر عليه، ألا ترى إلى استعارة الطائر للعمل في قوله: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} وقولهم: «طار لفلان كذا في القسمة» أي سهمه، و «طائر السعد والنحس» وفيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران واستحضار لمشاهدة هذا الفعل الغريب. وجاء الوصف بلفظ «يطير» لأنه مشعر بالديمومة والغلبة، لأن أكثر أحوال الطائر كونه يطير، وقلَّ ما يسكن، حتى إن المحبوس منها يكثر وُلُوعه بالطيران في المكان الذي حبس فيه من قفص وغيره.
وقرأ ابن أبي عبلة {ولا طائر} بالرفع، عطفاً على موضع {دابة}. وجوزوا أن يكون {في الأرض} في موضع رفع صفة على موضع {دابة}، وكذلك يقتضي أن يكون {يطير} ويتعين ذلك في قراءة ابن أبي عبلة، والباء في {بجناحيه} للاستعانة كقوله: {كتبت بالقلم} و{إلا أممٍ} هو خبر المبتدأ الذي هو {من دابة} {ولا طائر} وجمع الخبر وإن كان المبتدأ مفرداً حملاً على المعنى لأن المفرد هنا للاستغراق والمثلية هنا.
قال الزمخشري أمثالكم مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم انتهى.
وقال ابن عطية مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر.
وقال الطبري وغيره وهو مرويٌّ عن أبي هريرة واختيار الزجاج المماثلة في أنها تجازى بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض، على ما روي في الأحاديث.
وقال مكيّ في أنها تعرف الله تعالى وتعبده. وهذا قول أبي عبيدة، قال معناه إلا أجناس يعرفون الله ويعبدونه. ونقله الواحدي عن ابن عباس أن المماثلة حصلت من حيث إنهم يعرفون الله ويوحدونه ويحمدونه ويسبحونه. وإليه ذهبت طائفة من المفسرين محتجين بقوله: {وإن من شيء لا يسبح بحمده} وبقوله في صفة الحيوان {كل قد علم صلاته وتسبيحه} وبما به خاطب النمل وخاطب الهدهد.
قال ابن عطية في قول مكي وهذا قول خلف انتهى.
وقال ابن عطية ويحتمل أن تكون المماثلة في كونها أمماً لا غير. كما تريد بقولك: مررت برجل مثلك أي أي انه رجل. ويصح في غير ذلك من الأوصاف إلا أن الفائدة في هذه أن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمماً.
وقال مجاهد إلا أصناف مصنفة.
وقال أبو صالح عن ابن عباس: المماثلة وقعت بينها وبين بني آدم من قبل أن بعضهم يفقه عن بعض.
وقال ابن عيسى أمثالكم في الحاجة إلى مدبر يدبرهم فيما يحتاجون إليه من قوت يقوتهم وإلى لباس يسترهم، وإلى كنٍّ يواريهم.
وروي عن أبي الدرداء أنه قال: أبهمت عقول البهم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء: الإله سبحانه وتعالى وطلب الرزق، ومعرفة الذكر والأنثى، وتهيؤ كل واحد منهما لصاحبه.
وقيل المماثلة في كونها جماعات مخلوقة يشبه بعضها بعضاً، ويأنس بعضها ببعض وتتوالد كالإنس.
وروى أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة أنه قرأ هذه الآية وقال ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم، فمنهم من يقدم إقدام الأسد ومنهم من يعدو عَدْوَ الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلاب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس، ومنهم من يشره شره الخنزير.
وفي رواية منهم من يشبه الخنزير إذا ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل من رجيعه ولغ فيه. وكذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ منها واحدة. فإن أخطأت واحدة حفظها ولم يجلس مجلساً رواها عنك {ما فرطنا في الكتاب من شيء} أي ما تركنا وما أغفلنا والكتاب اللوح المحفوظ. والمعنى وما أغفلنا فيه من شيء لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت، قاله الزمخشري ولم يذكر غيره، أو القرآن وهو الذي يقتضيه سياق الآية والمعنى. وبدأ به عن ابن عطية وذكر اللوح المحفوظ، فعلي هذا يكون قوله: من شيء على عمومه، وعلى القول الأول يكون من العام الذي يراد به الخاص فالمعنى من شيء يدعو إلى معرفة الله وتكاليفه، وكثيراً ما يستدل بعض الظاهرية بقوله: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} يشير إلى أن الكتاب تضمن الأحكام التكليفية كلها، والتفريط التقصير فحقه أن يتعدى بفي كقوله {على ما فرطت في جنب الله} وإذا كان كذلك فيكون قد ضمن ما أغفلنا وما تركنا ويكون {من شيء} في موضع المفعول به و{من} زائدة، والمعنى: ما تركنا وما أغفلنا في الكتاب شيئاً يحتاج إليه من دلائل الإلهية والتكاليف، ويبعد جعل {من} هنا تبعيضية وأن يكون التقدير ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المكلف، وإن قاله بعضهم. وجعل أبو البقاء هنا {من شيء} واقعاً موقع المصدر، أي تفريطاً. قال: وعلى هذا التأويل لا يبقى في الآية حجة لمن ظن أنّ الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء تصريحاً ونظير ذلك لا يضركم كيدهم شيئاً أي ضرراً انتهى. وما ذكره من أنه لا يبقى على هذا التأويل حجة لمن ذكر ليس كما ذكر لأنه إذا تسلط النفي على المصدر منفياً على جهة العموم، ويلزم من نفي هذا العموم نفي أنواع المصدر ونوع مشخصاته، ونظير ذلك لا قيام فهذا نفي عام فينتفي منه جميع أنواع القيام ومشخصاته كقيام زيد وقيام عمرو وما أشبه ذلك فإذا نفى التفريط على طريقة العموم كان ذلك نفياً لجميع أنواع التفريط ومشخصاته ومتعلقاته، فيلزم من ذلك أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء.
وقرأ الأعرج وعلقمة {ما فرطنا} بتحفيف الراء والمعنى واحد. وقال النقاش: معنى {فرطنا} مخففة، أخرنا كما قالوا: فرط الله عنك المرض أي أزاله.
{ثم إلى ربهم يحشرون} الظاهر في الضمير أنه عائد على ما تقدم وهو الأمم كلها من الطير والدواب. وقال قوم: هو عائد على الكفار لا على أمم وما تخلل بينهما كلام معترض وإقامة وحجج ويرجح هذا القول كونه جاء بهم وبالواو التي هي للعقلاء، ولو كان عائداً على أمم الطير والدواب لكان التركيب ثم إلى ربها تحشر ويجاب عن هذا بأنها لما كانت ممتثلة ما أراد الله منها، أجريت مجرى العقلاء وأصل الحشر الجمع ومنه فحشر فنادى والظاهر أنه يراد به البعث يوم القيامة وهو قول الجمهور، فتحشر البهائم والدواب والطير وفي ذلك حدّيث يرويه يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله عز وجل يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول: كوني تراباً فذلك قوله تعالى: {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} وقال ابن عباس والحسن في آخرين: حشر الدواب موتها لأن الدواب لا تكليف عليها ولا ترجو ثواباً ولا تخاف عقاباً ولا تفهم خطاباً؛ انتهى. ومن ذهب هذا المذهب تأول حديث أبي هريرة على معنى التمثيل في الحساب والقصاص حتى يفهم كل مكلف أنه لا بد له منه ولا محيص وأنه العدل المحض. قال ابن عطية: والقول في الأحاديث المتضمنة أن الله يقتص للجماء من القرناء، أنها كناية عن العدل وليست بحقيقة قول مرذول ينحو إلى القول بالرموز ونحوها؛ انتهى.
وقال ابن فورك: القول بحشرها مع بني آدم أظهر؛ انتهى. وعلى القول بحشر البهائم مع الناس اختلفوا في المعنى الذي تحشر لأجله، فذهب أهل السنة أنها لإظهار القدرة على الإعادة وفي ذلك تخجيل لمن أنكر ذلك فقال: {من يحيي العظام وهي رميم} وقالت المعتزلة: يحشر الله البهائم والطير لإيصال الإعواض إليها وكذلك قال الزمخشري، فيعوضها وينصف بعضها من بعض كما روي أنه يأخذ للجماء من القرناء؛ انتهى. وطول المعتزلة في إيصال التعويض عن آلام البهائم وضررها وأن ذلك واجب على الله تعالى. وفرعوا فروعاً واختلفوا في العوض أهو منقطع أم دائم؟ فذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه منقطع فبعد توفية العوض يجعلها تراباً، وقال أبو القاسم البلخي: يجب كون العوض دائماً. وقيل: تدخل البهائم الجنة وتعوض عن ما نالها من الآلام وكل ما قالته المعتزلة مبناه على أن الله تعالى يجب عليه إيصال الاعواض إلى البهائم عن الآلام التي حصلت لها في الدّنيا، ومذهب أهل السنة أن الإيجاب على الله تعالى محال.
{والذين كذبوا بآياتنا صمّ وبكم في الظلمات} قال النقاش: نزلت في بني عبد الدار ثم انسحبت على سواهم؛ انتهى. ومناسبة هذه لما قبلها أنه لما تقدم قوله: {إنما يستجيب الذين يسمعون} أخبر أن المكذبين بالآيات صم لا يسمعون من ينبههم، فلا يستجيب أحد منهم ولما كان قوله: {وما من دابة} الآية منبهاً على عظيم قدرة الله تعالى ولطيف صنعه وبديع خلقه، ذكر أن المكذب بآياته هو أصم عن سماع الحق أبكم عن النطق به، والآيات هنا القرآن أو ما ظهر على يدي الرسول من المعجزات أو الدلائل والحجج ثلاثة أقوال والإخبار عنهم بقوله: {صم وبكم في الظلمات} الظاهر أنه استعارة عن عدم الانتفاع الذهني بهذه الحواس لا أنهم {صم وبكم في الظلمات} حقيقة وجاء قوله: {في الظلمات} كناية عن عمي البصيرة، فهو ينظر كقوله: {صم بكم عمي} لكن قوله: {في الظلمات} أبلغ من قوله: {عمي} إذ جعلت ظرفاً لهم وجمعت لاختلاف جهات الكفر، كما قيل في قوله: {وجعل الظلمات والنور} على أحد الأقوال وفي قوله: {يخرجونهم من النور إلى الظلمات} وقال الجبائي: الإخبار عنهم بأنهم {صم وبكم في الظلمات} حقيقة وذلك يوم القيامة يجعلهم صماً وبكماً في الظلمات يضلهم بذلك عن الجنة ويصيرهم إلى النار، ويعضد هذا التأويل قوله تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم} الآية. وق


{وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} الكاف للتشبيه في موضع نصب والإشارة بذلك إلى فتون سابق وقد تقدم ذكر أمم رسل وإرسالهم مبشرين ومنذرين، وتقسيم أممهم إلى مؤمن ومكذب فدل ذلك على أن اتباع الرسل مختلفون وواقع فيهم الفتون لا محالة؛ كما وقع في هذه الأمة فشبه تعالى ابتلاء هذه الأمة واختبارها بابتلاء الأمم السالفة أي حال هذه الأمّة حال الأمم السابقة في فتون بعضهم ببعض والفتون بالغني والفقر أو بالشرف والوضاعة والقوّة والضعف. قال الزمخشري: ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناس ببعض أي ابتليناهم به وذلك إن المشركين كانوا يقولون للمسلمين {أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا} أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بيننا بالخير نحواً {أألقي الذكر عليه من بيننا} {لو كان خيراً ما سبقونا إليه} ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك خذلانهم فافتتنوا حتى كان افتتانهم سبباً لهذا القول لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول متقوّل؛ انتهى. وآخر كلامه على طريقة المعتزلة من تأويل الفتنة التي نسبها تعالى إليه بالخذلان لأن جرياً على عادته. قال ابن عطية: ابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوماً لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيهم قدراً ومنزلة، والإشارة بذلك إلى من ذكر من ظلمهم أن تطرد الضعفة؛ انتهى. ولا ينتظم هذا التشبيه إذ يصير التقدير ومثل ذلك أي طلب الطرد {فتنا بعضهم ببعض} والذي يتبادر إليه الذهن إنك إذا قلت: ضربت مثل ذلك إنما يفهم منه مثل ذلك الضرب لا أنه تقع المماثلة في غيره واللام في {ليقولوا} الظاهر أنها لام كي أي هذا الابتلاء لكي يقولوا: هذه المقالة على سبيل الاستفهام لأنفسهم والمناجاة لها، ويصير المعنى ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سبباً للنظر لمن هدى ومن أثبت أن اللام تكون للصيرورة، جوز هنا أن تكون للصيرورة ويكون قولهم على سبيل الاستحقاق {وهؤلاء} إشارة إلى المؤمنين {ومن الله عليهم} أي بزعمهم إن دينهم منه تعالى.
{أليس الله بأعلم بالشاكرين} هذا استفهام معناه التقرير والردّ على أولئك القائلين أي الله أعلم بمن يشكر فيضع فيه هدايته دون من يكفر فلا يهديه، وجاء لفظ الشكر هنا في غاية من الحسن إذ تقدم من قولهم: {أهؤلاء منّ الله عليهم} أي أنعم عليهم فناسب ذكر الإنعام لفظ الشكر؟ والمعنى أنه تعالى عالم بهؤلاء المنعم عليهم الشاكرين لنعمائه وتضمن العلم معنى الثواب والجزاء لهم على شكرهم فليسوا موضع استخفافكم ولا استعجابكم.
وقيل: بالشاكرين من منّ عليهم بالإيمان دون الرؤساء الذين علم منهم الكفر. وقيل: من يشكر على الإسلام إذا هديته. وقيل: بمن يوفق للإيمان كبلال ومن دونه. وقال الزمشخري: أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق؛ انتهى. وهو على طريقة الاعتزال.
{وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم} الجمهور أنها نزلت في الذين نهى الله عن طردهم فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أبدأهم بالسلام» وقيل: الذين صوّبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة. وقال الفضيل بن عياض: قال قوم: قد أصبنا ذنوباً فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت. وقيل: نزلت في عمر حين أشار بإجابة الكفرة ولم يعلم أنها مفسدة، وعلى هذه الأسباب يكون تفسير {الذين يؤمنون} فإن كان عنى بهم الستة الذين نهى عن طردهم فيكون من باب العام أريد به الخاص ويكون قوله {سلام عليكم} أمراً بإكرامهم وتنبيهاً على خصوصية تشريفهم بهذا النوع من الإكرام وإن كان عنى عمر حين اعتذر واستغفر وقال: ما أردت بذلك إلا الخير كان من إطلاق الجمع على الواحد المعظم، والظاهر أنه يراد به المؤمنون من غير تخصيص لا بالستة ولا بغيرهم وإنها استئناف إخبار من الله تعالى بعد تقصي خبر أولئك الذين نهى عن طردهم ولو كانوا إياهم لكان التركيب الأحسن، وإذا جاؤك والآيات هنا آيات القرآن وعلامات النبوة. وقال أبو عبد الله الرازي: آيات الله آيات وجوده وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه ووحدانيته وما سوى الله لا نهاية له، ولا سبيل للعقول إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار، ولما كان لا نهاية لها فكذلك، لا نهاية في ترقي العبد في معارج تلك الآيات وهذا مشرع جملي لا نهاية لتفاصيله، ثم إن العبد إذا كان موصوفاً بهذه الصفات فعندها أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم سلام عليكم فيكون هذا التسليم بشارة بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة والنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخافات وموضع التغييرات والتبديلات، وأما الكرامة بالوصول إلى الباقيات الصالحات المجردات المقدسات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال؛ انتهى كلامه وهو تكثير لا طائل تحته طافح بإشارات أهل الفلسفة بعيد من مناهج المتشرّعين وعن مناحي كلام العرب ومن غلب عليه شيء حتى في غير مظانه ولله در القائل يغري منصور الموحدين بأهل الفلسفة من قصيدة:
وحرق كتبهم شرقاً وغربا *** ففيها كامن شرّ العلوم
يدب إلى العقائد من أذاها *** سموم والعقائد كالجسوم
وقال المبرد: السلام في اللغة اسم من أسماء الله تعالى وجمعه سلامة ومصدر واسم شجر. وقال الزجاج: مصدر لسلم تسليماً وسلاماً كالسراح من سرّح والأداء من أدى. وقال عكرمة والحسن: أمر بابتداء السلام عليهم تشريفاً لهم. وقال ابن زيد: أمر بإبلاغ السلام عليهم من الله، وقيل: معنى السلام هنا الدعاء من الآفات. وقال أبو الهيثم: السلام والتحية بمعنى واحد ومعنى السلام عليكم حياكم الله. وقال الزمخشري: إما أن يكون أمر بتبليغ سلام الله إليهم وإما أن يكون أمر بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم؛ انتهى. وترديده إما وأما الأول قول ابن زيد، والثاني قول عكرمة. وقال ابن عطية: لفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت؛ انتهى. والتخصيص الذي يعنيه النحاة في النكرة التي يبتدأ بها هو أن يتخصص بالوصف أو العمل أو الإضافة، وسلام ليس فيه شيء من هذه التخصيصات وقد رام بعض النحويين أن يجعل جواز الابتداء بالنكرة راجعاً إلى التخصيص والتعميم والذي يظهر من كلام ابن عطية أنه يعني بقوله إذ قد تخصصت أي استعملت، في الدعاء فلم تبق النكرة على مطلق مدلولها الوصفي إذ قد استعملت يراد بها أحد ما تحتمله النكرة.
{كتب ربكم على نفسه الرحمة} أي أوجبها والبارئ تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً إلا إذا أعلمنا أنه حتم بشيء فذلك الشيء واجب. وقيل: {كتب} وعد والكتب هنا في اللوح المحفوظ. وقيل: في كتاب غيره، وفي صحيح البخاري: «إن الله تعالى كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي» وهذه الجملة مأمور بقولها تبشيراً لهم بسعة رحمة الله وتفريحاً لقلوبهم.
{أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة} السوء: قيل: الشرك. وقيل المعاصي، وتقدم تفسير عمل السوء بجهالة في قوله: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} فأغنى عن إعادته.
{ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم} أي من بعد عمل السوء {وأصلح} شرط استدامة الإصلاح في الشيء الذي تاب منه. قرأ عاصم وابن عامر أنه بفتح الهمزتين فالأولى بدل من الرحمة والثانية خبر مبتدأ محذوف تقديره فأمره أنه أي أن الله غفور رحيم له، ووهم النحاس فزعم أن قوله {فأنه} عطف على أنه وتكرير لها لطول الكلام وهذا كما ذكرناه وهم، لأن {من} مبتدأ سواء كان موصولاً أو شرطاً فإن كان موصولاً بقي بلا خبر وإن كان شرطاً بقي بلا جواب. وقيل: إنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره عليه أنه من عمل.
وقيل: فإنه بدل من أنه وليس بشيء لدخول الفاء فيه ولخلو {من} من خبر أو جواب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والاخوان بكسر الهمزة فيهما الأولى على جهة التفسير للرحمة والثانية في موضع الخبر أو الجواب. وقرأ نافع بفتح الأولى على الوجهين السابقين وكسر الثانية على وجهها أيضاً، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاها الزهراوي عن الأعرج. وحكى سيبويه عنه مثل قراءة نافع. وقال الداني: قراءة الأعرج ضد قراءة نافع و{بجهالة} في موضع نصب على الحال أي وهو جاهل وما أحسن مساق هذا المقول أمره أولاً أن يقول للمؤمنين سلام عليكم فبدأ أولاً بالسلامة والأمن لمن آمن ثم خاطبهم ثانياً بوجوب الرحمة وأسند الكتابة إلى ربهم أي كتب الناظر لكم في مصالحكم والذي يربيكم ويملككم الرحمة فهذا تبشير بعموم الرحمة، ثم أبدل منها شيئاً خاصاً وهو غفرانه ورحمته لمن تاب وأصلح، ولو ذهب ذاهب إلى أن الرحمة مفعول من أجله وأن أنه في موضع نصب لكتب أي لأجل رحمته إياكم لم يبعد ولكن الظاهر أن الرحمة مفعول {كتب} واستدل المعتزلة بقوله: {كتب على نفسه الرحمة} أنه لا يخلق الكفر في الكافر لأن الرحمة تنافي ذلك وتنافي تعذيبه أبد الآباد.
{وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} الكاف للتشبيه وذلك إشارة إلى التفصيل الواقع في هذه السورة أي ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه ومن ترى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده. وقيل: المعنى كما فصلنا في هذه السورة دليل على صحة التوحيد والنبوة والقضاء والقدر نفصل لك دليلنا وحججنا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل. وقيل: إشارة إلى التفصيل للأمم السابقة ومثل ذلك التفصيل لمن كان قبلكم نفصل لكم. وقال التبريزي: معناه كما بينا للشاكرين والكافرين. وقال ابن قتيبة: تفصيلها إتيانها متفرقة شيئاً بعد شيء. وقال تاج القراء: الفصل بون ما بين الشيئين والتفصيل التبيين بين المعاني الملتبسة. وقال ابن عطية: والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى ما تقدم من النهي عن طرد المؤمنين وبيان فساد منزع المعارضين لذلك، وتفصيل الآيات تبيينها وشرحها وإظهارها؛ انتهى. واستبان يكون لازماً ومتعدّياً وتميم وأهل نجد يذكرون السبيل وأهل الحجاز يؤنثونها. وقرأ العربيان وابن كثير وحفص {ولتستبين} بالتاء {سبيل} بالرفع. وقرأ الأخوان وأبو بكر وليستبين بالياء {سبيل} بالرفع فاستبان هنا لازمة أي ولتظهر سبيل المجرمين. وقرأ نافع {ولتستبين} بتاء الخطاب {سبيل} بالنصب فاستبان هنا متعدية. فقيل: هو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل له ظاهراً والمراد أمته لأنه صلى الله عليه وسلم كان استبانها وخص {سبيل المجرمين} لأنه يلزم من استبانتها استبانة سبيل المؤمنين أو يكون على حذف معطوف لدلالة المعنى عليه التقدير سبيل المجرمين والمؤمنين.
وقيل: خص {سبيل المجرمين} لأنهم الذين أثاروا ما تقدم من الأقوال وهم أهم في هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم، وظاهر المجرمين العموم وتأوله ابن زيد على أنه عنى بالمجرمين الآمرون بطرد الضعفة واللام في {ولتستبين} متعلقة بفعل متأخر أي {ولتستبين سبيل المجرمين} فصلناها لكم أو قبلها علة محذوفة وهو قول الكوفيين التقدير لنبين لكم ولتستبين. وقال الزمخشري: لنستوضح سبيلهم فتعامل كلاًّ منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل.
{قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله} أمره تعالى أن يجاهرهم بالتبري من عبادتهم غير الله، ولما ذكر تعالى تفصيل الآيات لتستبين سبيل المبطل من المحق نهاه عن سلوك سبيلهم ومعنى نهيت زجرت. قال الزمخشري: بما ركب في من أدلة العقل وبما أوتيت من أدلة السمع والذين يدعون هم الأصنام، عبر عنها بالذين على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل و{تدعون}. قال ابن عباس: معناه تعبدون. وقيل: تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيداً سميته. وقيل: يدعون في أموركم وحوائجكم وفي قوله: {تدعون من دون الله} استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة، ولفظة {نهيت} أبلغ من النفي بلا {أعبد} إذ فيه ورود تكليف.
{قل لا أتبع أهواءكم} أي ما تميل إليه أنفسكم من عبادة غير الله ولما كانت أصنامهم مختلفة كان لكل عابد صنم هوى يخصه فلذلك جمع، و{أهواءكم} عام وغالب ما يستعمل في غير الخير ويعم عبادة الأصنام وما أمروا به من طرد المؤمنين الضعفاء وغير ذلك مما ليس بحق وهي أعم من الجملة السابقة وأنص على مخالفتهم، وفي قوله {أهواءكم} تنبيه على السبب الذي حصل منه الضلال وتنبيه لمن أراد اتباع الحق ومجانبة الباطل كما قال ابن دريد:
وآفة العقل الهوى فمن علا *** على هواه عقله فقد نجا
{قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين} المعنى إن اتبعت أهواءكم ضللت وما اهتديت والجملة من قوله: {وما أنا من المهتدين} مؤكدة لقوله {قد ضللت} وجاءت تلك فعلية لتدل على التجدد وهذه اسمية لتدل على الثبوت فحصل نفي تجدد الضلال وثبوته وجاءت رأس آية. وقرأ السلمي وابن وثاب وطلحة {ضللت} بكسر فتحة اللام وهي لغة، وفي التحرير قرأ يحيى وابن أبي ليلى هنا في السجدة في أئذا ضللنا بالصاد غير معجمة ويقال صل اللحم أنتن ويروى ضللنا أي دفنا في الضلة وهي الأرض الصلبة رواه أبو العباس عن مجاهد بن الفرات في كتاب الشواذ له. {قل إني على بينة من ربي} أي على شريعة واضحة وملة صحيحة. وقيل: البينة هي المعجزة التي تبين صدقي وهي القرآن، قالوا: ويجوز أن تكون التاء في {بينة} للمبالغة والمعنى على أمر بين لما نفي أن يكون متبعاً للهوى نبه على ما يجب اتباعه وهو الأمر الواضح من الله تعالى.
{وكذبتم به} إخبار منه عنهم أنهم كذبوا به والظاهر عود الضمير على الله أي وكذبتم بالله. وقيل: عائد على {بينة} لأن معناه على أمر بيِّن. وقيل: على البيان الدال عليه بينة. وقيل: على القرآن.
{ما عندي ما تستعجلون به} الذي استعجلوا به قيل الآيات المقترحة قاله الزجاج. وقيل: العذاب ورجح بأن الاستعجال لم يأت في القرآن إلا للعذاب لأنهم لم يستعجلوا بالآيات المقترحة وبأن لفظ {وكذبتم به} يتضمن أنكم واقعتم ما أنتم تستحقون به العذاب إلا أن ذلك ليس لي. قال الزمخشري: يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم: {فأمطر علينا حجارة من السماء} {إن الحكم إلا لله} أي الحكم لله على الإطلاق وهو الفصل بين الخصمين المختلفين بإيجاب الثواب والعقاب. وقيل: القضاء بإنزال العذاب وفيه التفويض العام لله تعالى. {يقضي الحق} هي قراءة العربيين والأخوين أي يقضي القضاء الحق في كل ما يقضى فيه من تأخير أو تعجيل، وضمن بعضهم يقضي معنى ينفذ فعداه إلى مفعول به. وقيل: يقضي بمعنى يصنع أي كل ما يصنعه فهو حق قال الهذلي:
وعليهما مسدودتان قضاهما *** داود أو صنع السوابغ تبع
أي صنعهما وقيل حذف الباء والأصل بالحق، ويؤيده قراءة عبد الله وأبي وابن وثاب والنخعي وطلحة والأعمش يقضي بالحق بياء الجر وسقطت الباء خطأ لسقوطها لفظاً لالتقاء الساكنين. وقرأ مجاهد وابن جبير يقضي بالحق.
{وهو خير الفاصلين} وفي مصحف عبد الله وهو أسرع الفاصلين. وقرأ ابن عباس والحرميان وعاصم {يقص الحق} من قص الحديث كقوله {نحن نقص عليك أحسن القصص} أو من قص الأثر أي اتبعه. وحكى أن أبا عمرو بن العلاء سئل أهو يقص الحق أو يقضي الحق؟ فقال: لو كان يقص لقال وهو خير القاصين أقرأ أحد بهذا وحيث قال {وهو خير الفاصلين} فإنما يكون الفصل في القضاء؛ انتهى. ولم يبلغ أبا عمرو أنه قرئ بها ويدل على ذلك قوله: أقرأ بها أحد ولا يلزم ما قال، فقد جاء الفصل في القول قال تعالى: {إنه لقول فصل} وقال: {أحكمت آياته ثم فصلت} وقال: {نفصل الآيات} فلا يلزم من ذكر الفاصلين أن يكون معيناً ليقضي و{خير} هنا أفعل التفضيل على بابها. وقيل: ليست على بابها لأن قضاءه تعالى لا يشبه قضاء ولا يفصل كفصله أحد وهذا الاستدلال يدل على أنها بابها.
{قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم} أي لو كان في قدرتي الوصول إلى ما تستعجلون به من اقتراح الآيات أو من حلول العذاب لبادرت إليه ووقع الانفصال بيني وبينكم. وروي عن عكرمة في {لقضي الأمر بيني وبينكم} أي لقامت القيامة وما روي عن ابن جريج من أن المعنى لذبح الموت لا يصح ولا له هنا معنى.
وقال الزمخشري و{ما تستعجلون به} من العذاب لأهلكنكم عاجلاً غضباً لربي وامتعاضاً من تكذيبكم به ولتخلصت منكم سريعاً؛ انتهى. وهو قول ابن عباس لم أمهلكم ساعة ولأهلكنكم. {والله أعلم بالظالمين} الظاهر أن المعنى والله أعلم بكم فوضع الظاهر المشعر بوصفهم بالظلم موضع المضمر ومعنى {أعلم} بهم أي بمجازاتهم ففيه وعيد وتهديد. وقيل: بتوقيت عقابهم وقيل: بما آل أمرهم من هداية بعض واستمرار بعض. وقيل: بمن ينبغي أن يؤخذ وبمن يمهل. وقيل: بما تقتضيه الحكمة من عذابهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5